تأكّد الغرور المصري بشكل نهائي، لا يرقى له الشك. فبعد كل ما شاهدنا من حرب كلامية شوفينية ضد الجزائر عبر قنوات تلفزيونية حكومية وخاصة، بات من المؤكد أن عقدة التفوّق المصري، بعد حالة الهستيريا التي لامسناها، أضحت ثقافة منتشرة في مصر تنشر عروبة من نوع خاص، تضع مصالح مصر فوق مصلحة الأمة العربية وتروج لعروبة مزيفة.
الغرور المصري ليس وليد اليوم، فقد ظلت العلاقة بين الجزائريين والحكومة المصرية متدهورة، تقوم على رغبة مصرية في التحكم في الثورة الجزائرية، وقابلتها رغبة جزائرية ملحّة في أن تكون العلاقة مع القاهرة علاقة تحالف وليس علاقة تبعية، كما عبر عن ذلك العربي بن مهيدي.
وتجلت ظاهرة عقدة التفوق المصري مباشرة بعد الإعلان الرسمي عن إنشاء الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية يوم 19 سبتمبر ,1958 خلال الندوة الصحفية التي عقدها بلقاسم كريم ومحمود الشريف. وقد غادر هذا الأخير تونس متوجها إلى القاهرة رفقة بن خدة وتوفيق المدني لمعرفة أسباب تأخر الحكومة المصرية عن الاعتراف بالحكومة المؤقتة. فبعد إعلان كل من تونس والمغرب وسوريا عن اعترافها رسميا بالحكومة المؤقتة خلال الساعات الأولى التي أعقبت الإعلان عنها، ظلت السلطات المصرية صامتة طيلة يومين. وفي يوم 20 سبتمبر وصل الوفد الجزائري إلى القاهرة فوجدوا مسؤول المخابرات المصري فتحي الديب في انتظارهم. ولدهشتهم الكبيرة كان فتحي الديب في حالة غضب قصوى. فظهر جليا أن مصر لم يعجبها ما قام به قادة الثورة بإعلانهم عن إنشاء الحكومة المؤقتة، فغضب الوفد الجزائري بدوره وقرر مغادرة القاهرة إلى تونس، مما دفع بالمصريين إلى إعادة النظر في مواقفهم مكرهين.
والحقيقة أن المصريين لم يكن لهم تصور شامل للثورة الجزائرية، وفي كثير من الأحيان يتصرفون وفق تصورات ضيقة تخضع لعقدة التفوق، فقد ظلوا يعتقدون أن فرحات عباس لا يصلح في جبهة التحرير الوطني، ويخشون من عبان رمضان ومن كل الذين لا يخدمون توجهاتهم الناصرية القائمة على القومية العربية المزيفة التي تريد أن تجعل من مصر سيدة العالم العربي. فكيف للثوار الجزائريين الذين فجّروا ثورة للتخلص من السيطرة الفرنسية، أن يقبلوا بسيطرة وتبعية مصرية باسم الناصرية والقومية العربية المزيفة.
وحسب اعتقاد آيت أحمد دائما، فإن المصريين كانوا يطرحون المسائل المتعلقة بعلاقتهم بالثورة من زاوية مصالحهم الدبلوماسية. وحدث في بعض الأوقات أن قرروا توقيف بث البرامج الإذاعية للثورة من القاهرة التي كان يبثها صوت العرب. فقرر آيت أحمد ومحمد خيذر التدخل لدى السلطات المصرية، وعلما من أنور السادات أن القرار جاء من الرئيس عبد الناصر.
وتواصل الغرور المصري حينما علم فتحي الديب بأن الوفد الجزائري سوف يتوجه إلى باندونغ للمشاركة في قمة منظمة عدم الانحياز، فرد قائلا ''أنتم كذلك تريدون أن تهتموا بالسياسة مثل صالح بن يوسف... (علما أن مصر كانت تعول على هذا الأخير لإحداث انقلاب في تونس لإزاحة بورقيبة من سدة الحكم بعد أن أبدى ميول معادية للقومية العربية كما ورد في كتاب الصافي سعيد ''بورقيبة.. السيرة المحرمة'').
ولم يتوقف غضب السلطات المصرية عند هذا الحد، بل تبعته محاولات خطيرة للإطاحة بالحكومة المؤقتة عبر ما يسمى بمؤامرة لعموري. وقد تحدث الرئيس علي كافي عن هذه الظاهرة في مذكراته.
وبالفعل كان فتحي الديب قد اتصل ببعض الجزائريين وأخبرهم أن الرئيس عبد الناصر جد مستاء من الحكومة المؤقتة. كما أعلمهم أن الحكومة المصرية مستعدة لمساعدتهم بالأسلحة والذخيرة للتخلص من الحكومة المؤقتة ومن العقداء بلقاسم كريم ومحمود شريف ولخضر بن طوبال وعبد الحفيظ بوصوف.
هذا الدور السلبي الذي لعبته المخابرات المصرية للمحاولة بالإطاحة بالحكومة المؤقتة ورد في جزء من مذكرات المجاهد لخضر بن طوبال الذي نشرته مجلة ''نقد'' في ديسمبر .1999
ويرجع بن طوبال دوافع الرئيس عبد الناصر لاستعمال بعض الانقلابيين للإطاحة بالحكومة المؤقتة، لعدم ثقته في الرئيس فرحات عباس الذي أبدى باسم الثورة الجزائرية ميول مغاربية في مؤتمر طنجة الذي انعقد بين 27 و29 أفريل 1958، حيث اتفقت الأحزاب المغاربية الثلاث (جبهة التحرير الوطني، حزب الاستقلال المغربي والدستور الجديد التونسي) على تشكيل جبهة موحدة، اعتبرها عبد الناصر بمثابة جبهة منافسة له قد تحول دون تزعمه للقومية العربية.
وكتب بن طوبال ''كان للمصريين نظرة سيئة للثورة الجزائرية، بعد كل الصيت العالمي الذي تحصلت عليه والتأثير الكبير الذي مارسته على البلدان العربية''.